#1
|
|||||||||
|
|||||||||
تَيْسِير حِفْظِ القرآن
تَيْسِير حِفْظِ القرآن
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: فالحديثُ عن "تَيْسِير حِفْظِ القرآن" يُجمَع في مطلبين: المطلب الأول: تعريف حفظ القرآن. المطلب الثاني: تيسير حفظه على جميع الألسنة. المطلب الأول: تعريف حفظ القرآن: أولاً: «الحفظ» لغة: جاء الحِفْظُ في اللُّغة مصدراً مشتقّاً من الفعل «حَفِظَ»، وقد ذكر عدد من علماء اللُّغة لهذا الفعلِ ومشتقَّاتِه استعمالات عديدة، وهي على النَّحو التَّالي: قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والفاء والظَّاء أصلٌ واحد، يدلُّ على مراعاةِ الشَّيء»[1]. والحِفْظ: نقيض النِّسْيان، وهو: التَّعاهُد وقلَّة الغفلة. يُقال: حَفِظ الشَّيءَ حِفْظاً، ورجل حافظ من قومٍ حُفَّاظ[2]. وحفظ الشَّيءَ حِفْظاً: حَرَسَهُ، وحَفِظَهُ: اسْتَظْهَرَهُ. والتَّحَفُّظُ: التَّيَقُّظُ وقِلَّةُ الغَفْلَةِ. وتَحَفَّظَ الكتابَ: اسْتَظْهَرَهُ شيئاً بعد شيءٍ[3]. والحفظ - بمعنى عدم النِّسيان - له مرادفات عِدَّة: يُقال: قرأ فلانٌ القرآنَ على ظَهْر لسانه، وعن ظَهْر قلبه، أي: حَفِظَه. وظَهْرُ اللِّسانِ وظَهْرُ القلبِ كنايةٌ عن الحفظ من غير كتاب، ولهذا يُقال: اسْتَظْهَرَه، أي: حَفِظَه وقرأه ظاهراً[4]. حفظ القرآن يتضمَّن أموراً ثلاثة: 1- ضَبْط الصُّورة المُدْركة[5] بحيث يمكن أداؤها من غير كتاب. 2- المواظبة والمعاهدة للمحفوظ. 3- عدم النِّسيان[6]. استعمالات «الحفظ» في القرآن: سوف نَعْرِضُ للمعاني التي تتعلَّق بموضوع البحث على النَّحو الآتي: 1- يأتي الحفظ بمعنى التَّعهُّد والصِّيانة والرِّعاية، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ وقول إخوة يوسف: ﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا ﴾ [يوسف: 65]؛ وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [المعارج: 29][7]. 2- يأتي الحفظ بمعنى الأمانة، ومنه قول يوسف عليه السلام: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]. 3- يأتي الحفظ بمعنى الرَّقابة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [الشورى: 6]. ثانياً: «حفظ القرآن» اصطلاحاً: من خلال الاستعراض اللُّغوي لمادة «حَفِظَ»، ومشتقَّاتها في الآيات القرآنية، وما ذَكَرَه بعض أهل العلم في هذا الشَّأن، نستطيع أن نُقَرِّر: بأنَّ «حِفْظ القرآن» يعني: حَمْلَه، واستظهارَه، وقراءَته عن ظهر قلب، وعلى ظهر اللِّسان، والمواظبةَ والمعاهدةَ للمحفوظ، وصيانتَه ورعايتَه من الغفلة أو النِّسيان. تميُّز حافظ القرآن عن غيره من الحفَّاظ: يتميَّز حافظ القرآن عن غيره من حُفَّاظ الحديث، أو حفَّاظ الأشعار، أو الحِكَم، أو الأمثال، أو النُّصوص الأدبيَّة ونحوها، بأمرين أساسين: الأوَّل: استكمالُ القرآنِ كلِّه حفظاً وضبطاً: فلا يُسمَّى مَنْ حَفِظ نصف القرآن أو ربعه - مثلاً - حافظاً إلاَّ إذا أكمل حفظه. وإلاَّ صحَّ أن يُسمَّى جميع المسلمين حَفَظَةً للقرآن، إذْ لا يخلو مسلم من حِفْظ شيء من كتاب الله. الثَّاني: صيانة المحفوظ من النِّسيان: فمَنْ حَفِظَ القرآن ثم نَسِيه أو نَسِي جُلَّه أو بعضَه إهمالاً وغفلةً لغير عذر - كَكِبرَ أو مرض - لا يُسمَّى حافظاً، ولا يستحقُّ لقبَ (حامل القرآن الكريم)؛ لأنه إذا صحَّ رواية الحديث بالمعنى، وجاز تحوير بعض الشِّعر والنَّص الأدبي - مثلاً - فَمِثْل هذا ممتنع في حفظ القرآن العظيم[8]. المطلب الثاني: تيسير حفظه على جميع الألسنة: إنَّ من أعظم ما امتنَّ به الله عزّ وجل على المسلمين أنْ يَسَّرَ حِفْظَ القرآن والنُّطق به على ألسنتهم، يتساوى في ذلك العالم الذي وصل إلى أرقى درجات العلم، والإنسان العامِّي الذي يحبُّ القرآن ويتعلَّق به، كما يتساوى في ذلك أيضاً العربيُّ الفصيح، والأعجميُّ إذا توجَّه إلى حفظ كتاب الله، ولولا لُطف الله تعالى بالنَّاس، وتيسير القرآن للذِّكر بلسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استطاع أحد أن يتحمَّل حفظ آية من كتاب الله تعالى، وأنَّى له الإطاقة لأنوارها وإشعاعاتها؟! ولولا ذلك لما ذكر الله تعالى مسألة تيسير القرآن العظيم بلسان النَّبيِّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم. قال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ﴾ [مريم: 97][9]، كما أشار الله تعالى إلى عِظَمِ نعمه على عباده بأنْ يَسَّرَ لهم حِفْظَ القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17،22،32،40]. قال مجاهد رحمه الله: «يَسَّرْنَا: هَوَّنَّا قِراءَتَهُ»[10]. «أي: سَهَّلناه للحفظ وأَعَنَّا عليه مَنْ أراد حِفْظَه، فهل مِنْ طالبٍ لحفظه فَيُعَانُ عليه؟»[11]. وقوله تعالى: ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ «أي: فهل مِنْ مُتَّعِظٍ به، حافظٍ له؟ والاستفهام هنا بمعنى الأمر، أي احفظوه واتَّعِظوا به، وليس يُحْفَظُ من كُتُبِ الله عن ظَهْرِ قلبٍ غيرُه »[12]. والتَّيسير: إيجاد اليُسر في الشَّيء، سواء كان فعلاً، كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]. أم قولاً كقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الدخان: 58]. وسبب تيسيره: أنه نزل بأفصح اللُّغات وأبينها، وجاء على لسان أفضل الرُّسل صلّى الله عليه وسلّم. ومعنى تيسيره: يرجع إلى تيسير ما يراد منه، وهو فهم السَّامع المعاني التي عناها المتكلِّم به بدون كلفة على هذا السَّامع ولا إغلاق، كما يقولون: يدخلُ لِلأُذُنِ بِلا إِذْنٍ. وهذا اليُسْرُ يشمل الألفاظَ والمعاني: فأَمَّا الألفاظُ: لأنها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التَّراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يَخِفُّ حِفظُها على الألسنة. وأَمَّا المعاني: فبوضوحها ووفرتها، وبتولُّد مَعانٍ مِنْ مَعانٍ أُخَر كُلَّما كَرَّرَ المتدبِّرُ تدبُّرَه في فَهْمِها[13]. والمتأمِّل في هذه الآية الكريمة يجد أنَّ الله تبارك وتعالى أَكَّدَ تيسير حفظ كتابه بمؤكِّدات متعدِّدة قويَّة، منها: القَسَم ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ﴾، ومنها: التَّعبير بنون العظمة ﴿ يَسَّرْنَا ﴾، ومنها: تكرار هذه الآية أربع مرَّات في سورة القمر. والواقع المشاهَد يُصَدِّقُ هذا التَّيسير، فقد حَفِظَ القرآنَ حُفَّاظٌ لا يُحصَون عدداً في كلِّ جيل ومن كل قَبيل، لا يُخطئُ أحدُهم في كلمة ولا حرف، سواء كانوا عَرَباً أم عَجَماً، وأكثَرُ الحفَّاظ العَجَم لا يعرفون من العربيَّة شيئاً، وربَّما قرأ الواحد منهم القراءات السَّبع والعشر عن ظهر قلب[14]. وقد عَدَّ أبو الحسن الماوردي رحمه الله هذا الأمر وَجْهاً من وجوه إعجاز القرآن العظيم وخصائصه التي تَميَّز بها عن سائر كتب الله تعالى، فقال: «مِنْ إِعجازِه تيسيرُه على جميع الألسنة، حتى حَفِظَه الأعجميُّ الأبكم، ودار به لسان القبطيُّ الألكن، ولا يُحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذاك إلاَّ بخصائص إلهيَّة فَضَّله بها على سائر كتبه»[15]. ومع هذا التَّيسير فإنَّ حِفظَ القرآن من السَّهل الممتنع، سهلٌ حفظُه، ممتنعٌ ثباتُه في القلب بسهولة ويُسر، فلا بدَّ من تعاهده حتَّى لا يضيعَ حفظُه من الصُّدور. فأين المتعاهِدون لكتاب الله تعالى؟ هذه هي المشكلة! حِفْظُ القرآن ميسَّر دون سواه من الكتب السَّابقة: قال الرَّازي رحمه الله: «ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يُحفظ عن ظهر القلب غير القرآن»[16]. ورُوِيَ: «أنَّ كُتُبَ أهلِ الأديان - نحو التَّوراة والإنجيل - لا يتلوها أهلها إلاَّ نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كما القرآن»[17]، «غيرَ موسى، وهارون، ويوشع بن نون، وعُزير عليهم السلام ومن أجل ذلك افْتَتَنُوا بِعُزيرٍ لمَّا كَتَب لهم التَّوراة عن ظهر قلبِه حين أُحرقت»[18]. قال سعيد جبير رحمه الله: «ليس من كُتُبِ الله تعالى كتاب يُقرأ كلُّه ظاهراً إلاَّ القرآن»[19]. والذي يؤيِّد هذا التَّوجُّه ويؤكِّده: أنَّ الكتب الرَّبانيَّة نزلت كاملةً دفعةً واحدة، ولم يُؤمر أهلُها بحفظها كما أُمرت هذه الأمَّة بحفظ القرآن، ولم يتعهَّد اللهُ تعالى بحفظها لهم كما تعهَّد بحفظ القرآن. ومقتضياتُ الحفظ: أن يُحفظ في الصُّدور والسُّطور، وكُلَّما كان الحفظ في الصُّدور والسُّطور كان أوثقَ وأدعى للبقاء، ولذلك اجتمعت في القرآن العظيم كلُّ أسباب الحفظ. ولولا أنْ يسَّر اللهُ حِفْظَ القرآن الكريم في الصُّدور لما حُفِظَ عن ظهر قلبٍ على مَرِّ العصور، وكَرِّ الدُّهور، وتعاقبِ الأجيال، ولما وُجِدَ حافظٌ لكتاب الله تعالى، بل ولا سورةٍ من سوره أو آيةٍ من آياته[20]. هجر الحِفْظِ نوعان: الأوَّل: هجره ابتداءً: بعدم حفظه، وبالزُّهد في تعلُّمه، والمسؤوليَّة تقع فيه على وليِّ الأمر؛ وذلك لأنَّه لا بدَّ من أنْ يوجِّه أبناءَه لحفظ القرآن، خاصَّة في بداية مراحل العمر. الثَّاني: هجره بعد حفظه: وذلك بالانشغال عنه، وعدم تعاهده فيؤدِّي إلى تفلُّته، وهي مسؤوليَّة كلِّ فردٍ عن نفسه. [1] معجم مقاييس اللغة (1/309)، مادة: (حَفِظ). [2] انظر: لسان العرب (3/242)، مادة: (حَفِظ). [3] انظر: مختار الصحاح (ص76)، مادة: (حَفِظ). [4] انظر: لسان العرب (8/279)، مادة: (ظَهَرَ)؛ المعجم الوسيط (ص578)، مادة: (ظَهَرَ). [5] انظر: التعريفات، لعلي الجرجاني (ص120)، مادة: (حفظ). [6] انظر: كيف تحفظ القرآن الكريم، د. عبد الرب نواب الدين (ص40). [7] انظر: المفردات في غريب القرآن (ص131)، مادة: (حفظ). [8] انظر: كيف تحفظ القرآن الكريم (ص40). [9] انظر: تيسير القرآن بلسان سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، د. عبدو بن علي الحاج، مجلة الأحمدية (عدد 15) (رمضان 1424هـ) (ص222). [10]صحيح البخاري، كتاب التفسير (3/1547). [11] تفسير القرطبي (17/134). [12] تفسير الجلالين (ص706). [13] انظر: التحرير والتنوير (25/344) (27/180). [14] انظر: كيف تتوجه إلى العلوم والقرآن الكريم مصدرها، د. نور الدين عتر (ص83). [15] أعلام النبوة (ص69). [16] التفسير الكبير (29/38). [17] الكشاف (4/436). وانظر: تفسير النسفي (3/1726)؛ تفسير القرطبي (17/134). [18] تفسير القرطبي (17/134). [19] المصدر نفسه، والصفحة نفسها. [20] انظر: تيسير القرآن بلسان سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم (ص224). الألوكة للمزيد من مواضيعي
|
|
|
|