#1
|
|||||||||
|
|||||||||
الكؤوس الزرقاء
الكؤوس الزرقاء أسرَّ في صدره حزنه عليها ولم يُبده لهم، قال أنتم أولى ببيوتكم وأولادكم أولى بكم، اتَّفق الأبناء بعدما تناجوا على مداومة كل واحد منهم يومًا في الأسبوع؛ لئلا يتركوه بين جنبات الدار وحيدًا، وذات يوم أخلَّ أحدهم بيوم دوامه، لم يكترث الولد بغيابه والتمسَ له في صدره المعتل عذرًا: ما زلت بموفور صحة وعافية، فلمَّا أزعج الأولاد، وكان قد أبقى على كل شيء بالدار كما تركته أمُّهم لم يحرِّك منه ساكنًا، ولم يبَدِّل موضعًا كانت تُحبذه، وبينما الشمس تسطع في كبد السماء، ولا زال بها من قوة الشرر ما يضيء مظلم الحفر، خطر بباله فتح النوافذ الموصَدة من زمن، فأطلق لها العِنان من شتى الأركان، فاجتاحت أشعة الشمس كل الأثاث، وما زالت تبحث عن كل قطعة مظلمة لتوقِظَ فيها مواطن استقبال النور. لفت انتباهه تلك الصحبة من الكؤوس الزرقاء المتراصة بحرفية بيدي زوجه الراحلة، وقف أمامها حينًا يبتسم بأسى، هَمَّ بسحب زجاجها الجرار سحبًا رقيقًا لتصير في مأمن من عنفوان الريح متى انتفضت، وكأنه يريد أن تبقى على الهيئة التي تركتها عليه، مَرَّت نسائم الذكرى على شغاف قلبه المشتاق وقد حرَّكت فيه مواضع الأسى، فيراها وهي تتربع الآن أمام دولاب المقتنيات الخاص بشوارها وقد شرعت لتغسلها، وتتركها في مدخل الشمس حينًا لتجف، فتلمع لمعان اللؤلؤ، وزرقة لونها السماوي توحي بأنها ممتلئة بالماء يردِّد مقالته المشهورة لها كلما شرعت في غسلها: كأني بنهر النيل في أزهى حالاته، يبتسم وهو يتذكر ذلك الشجار اللطيف بينهما بشأن تلك الكؤوس الزرقاء، يتمنى لو توضع مرة واحدة على مائدة طعامهم، فقد شَبَّ الولدان وكبروا، وصارت مخاوف تبديدها ضئيلة جدًّا، لكنها تُصر على ألا يقترب منها أحدٌ مخافة أن يقع المحظور، فتنكسر كأسًا بعد الأخرى، وهي آخر ما تبقى لها من جهازها الذي ناهز عمره الخمسين عامًا، يبتسم وقد خالط الدمع الساخن خدَّه القديم، فيسحب جرَّار الزجاج عنها، فتبتهج لضوء الشمس، تمتد يديه للإمساك بواحدة منها، تنشأ ارتعاشة منبعها القلب، يبلغ مداها قوة مِعصميه، يترنَّح الكأس ويسقط جُذاذًا، يتصوَّرها الآن وهي تَقرَعُه بالتبكيت، وتعيد عليه مقالتها المأثورة: ذلك آخر ما تبقى لي من جهازي وفيه ذكرياتي وحياتي. يبتسم حينها: أولسنا من ذكرياتك أم أن تلك الكؤوس أغلى عندك منا؟! الكأس زجاج قابل للكسر أما أنت فلا! يمر ذلك المقطع المسجل صوتًا وصورة بدون تقنية مصطنعة على رأسه، ينفعل لأجْله، يَنكَبُّ يجمع بقاياه، وقد صَرَّه في كيس ثم يضعه في مكانه تخفيفًا من عبأ الكارثة، تباغته رياح شديدة صادفت نوافذ مفتَّحة الأشرعة، فيذود عن دولاب المقتنيات الزجاجية بصدره، ثم يسحب بابها الجرَّار سحبًا سريعًا، ثم يستعد لمجابهة الرياح ليصفد النوافذ، سَرعان ما تتلطف معه فتصير نسيمًا ذا شذا يَستنشقُه عبيرًا مُخْمَليًّا، يُسلم على أثره جسدَه للفراش، تدعوه الوسادة لنوم جديد لم يألَفْه قبلُ، يتذكَّر مهمة إغلاق النوافذ التي فُتحت، يُحس ثِقلًا في النهوض لغلْقها، يُحاول، لا يستطيع، يستكين، تأتيه صاحبة الكؤوس الزرقاء وهي تبتسم ولا تبدي غضبًا لكأسها التي تحطَّمت، يحاول أن يبرِّر لها سبب الواقعة، تَمنعه الكلام في متاع الدنيا، يُتمتم بالشهادة، يردِّدها بصوت مسموع، تدعوه لبِساط الريح الجميل الذي يُقلها، يغادران المرفأ وما زالت النوافذ مُفتَّحة المصارع، فتُصدر الرياح صفيرًا يوحي بخلوِّ الدار من الأنفاس، بينما الكؤوس الزرقاء خلف بابها الجرار في مأمن من غدرات الريح للمزيد من مواضيعي
|
|
|
|